فصل: تفسير الآية رقم (65):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (65):

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)}
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب} أي اليهود والنصارى على أن المراد بالكتاب الجنس الشامل للتوراة والإنجيل ويمكن أن يراد بهم اليهود فقط، وذكر الإنجيل ليس نصًا في اقتضاء العموم إلا أن الذي عليه عامة المفسرين العموم، وذكروا بذلك العنوان تأكيدًا للتشنيع عليهم، والمراد بهم معاصرو رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ولو أنهم مع صدور ما صدر منهم من فنون الجنايات قولًا وفعلًا {ءامَنُواْ} بما نفى عنهم الإيمان، فيندرج فيه فرض إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذف المتعلق ثقة بظهوره مما سبق من قوله تعالى: {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بالله} [المائدة: 59] إلخ، وما لحق من قوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة} [المائدة: 66] إلخ. وتخصيص المفعول بالإيمان به عليه الصلاة والسلام يأباه كما قال شيخ الإسلام المقام لأن ما ذكر فيما سبق وما لحق من كفرهم به عليه الصلاة والسلام إنما ذكر مشفوعًا بكفرهم بكتابهم أيضًا قصدًا إلى الإلزام والتبكيت ببيان أن الكفر به صلى الله عليه وسلم مستلزم للكفر بكتابهم، فحمل الإيمان هاهنا على الإيمان به عليه الصلاة والسلام مخل بتجاوب النظم الكريم، وقدر قتادة فيما أخرجه عن ابن حميد وغيره المتعلق بـِ {أَنزَلَ الله وَلاَ} [المائدة: 49]، وهو ميل إلى التعميم، وكذا عمم في قوله تعالى: {واتقوا} فقال: أي ما حرم الله تعالى. وقال شيخ الإسلام: ما عددنا من معاصيهم التي من جملتها مخالفة كتابهم {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سيئاتهم} التي اقترفوها وسارعوا فيها وإن كانت في غاية العظمة ولم نؤاخذهم بها، وجمعها جمع قلة إما باعتبار الأنواع وإما باعتبار أنها وإن كثرت قليلة بالنسبة إلى كرم الله تعالى، وقد أشرنا فيما تقدم أن جمع القلة قد يقوم مقام جمع الكثرة إذا اقتضاه المقام {وَلاَدْخِلَنَّهُمْ} مع ذلك {جنات النعيم}، وجعل أبو حيان تكفير السيئآت في مقابلة الإيمان، وإدخال جنات النعيم في مقابلة التقوى، وفسرها بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فالآية من باب التوزيع والظاهر عدمه، وتكرير اللام لتأكيد الوعد، وفيه تنبيه على كمال عظم ذنوبهم وكثرة معاصيهم، وأن الإسلام يجبّ ما قبله وإن جل وجاوز الحد، وفي إضافة الجنات إلى النعيم تنبيه على ما يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مالك بن دينار أنه قال: {جنات النعيم} بين جنات الفردوس وجنات عدن، وفيها جوار خلقن من ورد الجنة، قيل: فمن يسكنها؟ قال: الذين هموا بالمعاصي فلما ذكروا عظمة الله تعالى شأنه راقبوه، ولا يخفى أن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي، والذي يقتضيه الظاهر أن يقال لسائر الجنات: جنات النعيم وإن اختلفت مراتب النعيم فيها.

.تفسير الآية رقم (66):

{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)}
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة} أي وفوا حقهما راعاة ما فيهما من الأحكام التي من جملتها شواهد نبوته صلى الله عليه وسلم ومبشرات بعثته، وليس المراد مراعاة جميع ما فيهما من الأحكام منسوخة كانت أو غيرها، فإن ذلك ليس من الإقامة في شيء {والإنجيل وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ} من القرآن المجيد المصدق لما بين يديه كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واختاره الجبائي وغيره، وقيل: المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل ككتاب شعيا وكتاب حزقيل وكتاب حبقوق وكتاب دانيال فإنها مملوءة بالبشائر بعثه صلى الله عليه وسلم، واختاره أبو حيان، ويجوز أن يراد به ما يعم ذلك والقرآن العظيم، وإنزال الكتاب إلى أحد مجرد وصوله إليه، وإيجاب العمل به وإن لم يكن الوحي نازلًا عليه، والتعبير عن القرآن بذلك العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله اليهم وللتصريح ببطلان ما كانوا يدعونه من عدم نزوله إلى بني إسرائيل، وتقديم {إِلَيْهِمُ} لما مر آنفًا، وفي إضافة الرب إلى ضميرهم مزيد لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة.
{لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} أي لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها وخيرها، كما قال سبحانه: {لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} [الأعراف: 96] قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد، وقيل: المراد لانتفعوا بكثرة ثمار الأشجار وغلال الزروع، وقيل: بما يهدل من الثمار من رءوس الأشجار وما يتساقط منها على الأرض، وقيل: بما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم وما يعطيه لهم سفلتهم وعوامهم، وقيل: المراد المبالغة في شرح السعة والخصب لا تعيين الجهتين كأنه قيل: لأكلوا من كل جهة، وجعله الطبرسي نظير قولك: فلان في الخير من قرنه إلى قدمه أي يأتيه الخير من كل جهة يلتمسه منها، والمراد بالأكل الانتفاع مطلقًا، وعبر عن ذلك به لكونه أعظم الانتفاعات ويستتبع سائرها، ومفعول أكلوا محذوف لقصد التعميم أو للقصد إلى نفس الفعل كما في قولك: فلان يعطي ويمنع، ومن في الموضعين لابتداء الغاية.
وسنشير إن شاء الله تعالى في باب الإشارة إلى سر ذكر الأرجل، وفي الشرطية الأولى ترغيب بأمر أخروي، وفي الثانية ترغيب بأمر دنيوي وتنبيه على أن ما أصاب أولئك الفجرة من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصور في فيض الفياض، وتقديم الترغيب بالأمر الأخروي لأنه أهم إذ به النجاة السرمدية والنعيم المقيم، وخولف بين العبارتين، فقيل: أولًا: {واتقوا لَفَتَحْنَا} [المائدة: 65] وثانيًا: {أَقَامُواْ} ذا وذا سلوكًا لطريق البلاغة قيل: ويشبه أن يكون {مَا} في الشرطية الثانية إشارة إلى ما جرى على بني قريظة.
وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم، فكأنه قيل في حقهم: لو أنهم أقاموا لأقاموا في ديارهم وانتفعوا بنخيلهم وزروعهم لكنهم تعدوا عن الإقامة فحرموا وتاهوا في مهامه الضنك إذ ظلموا، وفرق بعضهم بين الشرطيتين بأن الأولى متحققة اللزوم في أهل الكتاب إلى يوم القيامة إذ لا شبهة في أنه إذا آمن كتابي واتقى كَفَّرَ الله تعالى عنه سيئاته وأدخله جل شأنه في رحمته سواء في ذلك معاصر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، ولا كذلك الشرطية الثانية فإن الظاهر اختصاص تحقق اللزوم في المعاصر إذ نرى كثيرًا من أهل الكتاب اليوم عزل عن الإقامة المذكورة قد وسع عليه أكثر مما وسع على كثير ممن أقام، ونرى الكثير أيضًا منهم يقيم التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ويؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق وهو في ضنك من العيش قبل ولا يتغير حاله، ورا كان في رفاهية حتى إذا أقام وقفت به سفينة العيش فوقع في حيص بيص، وجعلها كالشرطية الأولى، وحمل التوسعة على ما هو أعم من التوسعة الصورية الظاهرة والتوسعة المعنوية الباطنية كأن يرزقهم سبحانه القناعة والرضا بما في أيديهم فيكون عندهم كالكثير وإن كان قليلًا لا أظنه يأخذ محلًا من فؤادك ولا أحسبه حاسمًا لما يقال، والقول بأنها كالأولى إلا أن الملازمة بين إقامتهم بأسرهم ما تقدم وانتفاعهم كذلك أي لو أنهم كلهم أقاموا التوراة إلخ لأكلوا كلهم من فوقهم إلخ لا لو أقام بعضهم لا أراه إلا منكرًا من القول وزورًا. وذكر بعض المحققين أن بعضًا فسر قوله سبحانه: {لاَكَلُواْ} إلخ بقوله: لوسع عليهم الرزق، وفسر التوسعة بأوجه ذكرها، ولم يجعله شاملًا لرزق الدارين، ولو حمل على الترقي، وتفصيل ما أجمل في الأول شرطًا وجزاءًا لكان وجهًا انتهى، وبهذا الوجه أقول وإليه أتوجه، وإني أراه كالمتعين إلا أن الشرطيتين عليه ليستا سواء، والإشكال فيه باق من وجه ولا مخلص عنه على ما أرى إلا بالذهاب إلى اختلاف الشرطيتين، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تحقيق ما يتعلق بهذا المقام فتدبر.
{مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} أي طائفة عادلة غير غالية ولا مقصرة كما روي عن الربيع وهم الذين أسلموا منهم وتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم كما قال مجاهد والسدي وابن زيد واختاره الجبائي، وأولئك كعبد الله بن سلام وأضرابه من اليهود وثمانية وأربعون من النصارى، وقيل: المراد بهم النجاشي وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، والجملة مستأنفة مبنية على سؤال نشأ من مضمون الشرطيتين المصدرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والإتقاء والإقامة المذكورات كأنه قيل: هل كلهم مصرُّون على عدم الإيمان وأخويه؟ فقيل: {مِنْهُمْ} إلخ، وتفسير الاقتصاد بالتوسط في العداوة بعيد، {وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ} وهم الأجلاف المتعصبون ككعب بن الأشرف وأشباهه والروم.
{سَاء مَا يَعْمَلُونَ} من العناد والمكابرة وتحريف الحق والإعراض عنه. وقيل: من الإفراط في العداوة {وَكَثِيرٌ} مبتدأ، و{مِنْهُمْ} صفته، و{سَاء} كبئس للذم.
وعن بعض النحاة أن فيها معنى التعجب كقضو زيد أي ما أقضاه، فالمعنى هنا ما أسوأ عملهم، وبعضهم يقول: هي لمجرد الذم والتعجب مأخوذ من المقام، وتمييزها محذوف، و{مَا} موصولة فاعل لها أي ساء عملًا الذي يعملونه، ويجوز أن تكون {مَا} نكرة في موضع التمييز، والجملة الإنشائية خبر للمبتدأ، والكلام في ذلك شهير.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين ءامَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة} أي صلاة الشهود والحضور الذاتي {وَيُؤْتُونَ الزكواة} أي زكاة وجودهم {وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] أي خاضعون في البقاء بالله. والآية عند معظم المحدثين نزلت في عليّ كرّم الله تعالى وجهه، والإمامية كما علمت يستدلون بها على خلافته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا فصل، وقد علمت منا ردّهم والحمد لله سبحانه ردّ كلام، وكثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يشير إلى القول بخلافته كرّم الله تعالى وجهه بعد الرسول عليه الصلاة والسلام بلا فصل أيضًا إلا أن تلك الخلافة عندهم هي الخلافة الباطنة التي هي خلافة الإرشاد والتربية والإمداد والتصرف الروحاني لا الخلافة الصورية التي هي عبارة عن إقامة الحدود الظاهرة وتجهيز الجيوش والذب عن بيضة الإسلام ومحاربة أعدائه بالسيف والسنان، فإن تلك عندهم على الترتيب الذي وقع كما هو مذهب أهل السنة، والفرق عندهم بين الخلافتين كالفرق بين القشر واللب، فالخلافة الباطنة لب الخلافة الظاهرة، وبها يذب عن حقيقة الإسلام، وبالظاهرة يذب عن صورته، وهي مرتبة القطب في كل عصر، وقد تجتمع مع الخلافة الظاهرة كما اجتمعت في علي كرم الله تعالى وجهه أيام أمارته، وكما تجتمع في المهدي أيام ظهوره، وهي والنبوة رضيعا ثدي، وإلى ذلك الإشارة بما يروونه عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: «خلقت أنا وعلى من نور واحد» وكانت هذه الخلافة فيه كرم الله تعالى وجهه على الوجه الأتم. ومن هنا كانت سلاسل أهل الله عز وجل منتهية إليه إلا ما هو أعز من بيض الأنوق، فإنه ينتهي إلى الصديق رضي الله تعالى عنه كسلسلة ساداتنا النقشبندية نفعنا الله تعالى بعلومهم، ومع هذا ترد عليه كرم الله تعالى وجهه أيضًا، وبتقسيم الخلافة إلى هذين القسمين جمع بعض العارفين بين الأحاديث المشعرة أو المصرحة بخلافة الأئمة الثلاثة رضي الله تعالى عنهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الترتيب المعلوم، وبين الأحاديث المشعرة أو المصرحة بخلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه بعده عليه الصلاة والسلام بلا فصل، فحمل الأحاديث الواردة في خلافة الخلفاء الثلاثة على الخلافة الظاهرة، والأحاديث الواردة في خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلافة الباطنة ولم يعطل شيئًا من الأخبار، وقال بحقيقة خلافة الأربع رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وأنت تعلم أن هذا مشعر بأفضلية الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلفاء الثلاثة، وبعضهم يصرح بذلك، ويقول: بجواز خلافة المفضول خلافة صورية مع وجود الفاضل لكن قد قدمنا عن الشيخ الأكبر قدس الله تعالى سره أنه قال: ليس بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه رجل، وليس مقصوده سوى بيان المرتبة في الفضل فافهم {وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين ءامَنُواْ} فإنه من حزب الله تعالى أي أهل خاصته القائمين معه على شرائط الاستقامة {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} [المائدة: 56] على أعدائهم الأنفسية والأفاقية، وقد صح «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله سبحانه لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك» {الغالبون ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ} أي حالكم الذي أنتم عليه في السير والسلوك {هُزُوًا وَلَعِبًا} فطعنوا فيه {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} وهم المقتصرون على الظاهر فقط كاليهود أو على الباطن فقط كالنصارى {والكفار} الذين حجبوا بأنفسهم عن الحق {أَوْلِيَاء} للمباينة في الأحوال {واتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] به عز شأنه {وَإِذَا ناديتم إِلَى الصلاة} أي الحضور في حضرة الرب {اتخذوها هُزُوًا وَلَعِبًا ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58] الأسرار ولم يفهموا ما في الصلاة من بلوغ الأوطار، فقد صح «حبب لي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة» {قُلْ ياأهل أَهْلِ الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ} وتنكرون {مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ} [المائدة: 59] فجمعنا بين الظاهر والباطن وطرنا بهذين الجناحين إلى الحضرة القدسية {وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير} أي بدلنا صفاتهم بصفات هاتيك الحيوانات من الحيل والحرص والشهوة وقلة الغيرة {وَعَبَدَ الطاغوت} وهو كل ما يطغى مما سوى الله تعالى أي أنهم انقادوا إليه وخضعوا له، ومن أولئك من هو عابد الدرهم والدينار {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا} [المائدة: 60] لأنهم أبطلوا استعدادهم الفطري وضلوا ضلالًا بعيدًا {وترى كَثِيرًا مّنْهُمْ يسارعون فِي الإثم والعدوان وَأَكْلِهِمُ السحت} [المائدة: 62] أي يقدمون بسرعة على جميع الرذائل لاعتيادهم لها وتدربهم فيها وكونها ملكات لنفوسهم، فالإثم رذيلة القوة النطقية والعدوان رذيلة القوى الغضبية، وأكل السحت رذيلة القوى الشهوية {وَقَالَتِ اليهود} لحرمانهم من الأسرار التي لا يطلع عليها أهل الظاهر {يَدُ الله} تعالى عما يقولون {مَغْلُولَةً} فلا يفيض غير ما نحن فيه من العلوم الظاهرة {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} وحرموا إلى يوم القيامة عن تناول ثمار أشجار الأسرار {وَلُعِنُواْ} أي أبعدوا عن الحضرة الإلهية {ا قَالُواْ} من تلك الكلمة العظيمة {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ} بهما {كَيْفَ يَشَاء} [المائدة: 64] فيفيض حسب الحكمة من أنواع العلوم الظاهرة والباطنة على من وجده أهلًا لذلك، وإلى الظاهر والباطن أشار صلى الله عليه وسلم «بالليل والنهار» فيما أخرجه البخاري وغيره «يد الله تعالى ملآى لا يغيضها سخاء الليل والنهار» {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب ءامَنُواْ} الإيمان الحقيقي {واتقوا} شرك أفعالهم وصفاتهم وذواتهم، ولو أنهم آمنوا بالعلوم الظاهرة {واتقوا} الإنكار والاعتراض على من روي من العلوم الباطنة وسلموا لهم أحوالهم كما قيل:
وإذا لم تر الهلال فسلم ** لأناس رأوه بالأبصار

{لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سيئاتهم} التي ارتكبوها {ولادخلناهم جنات النعيم} [المائدة: 65] في مقابلة إيمانهم واتقائهم {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة} بتحقق علوم الظاهر والقيام بحقوق تجليات الأفعال والمحافظة على أحكامها في المعاملات {والإنجيل} بتحقق علوم الباطن والقيام بحقوق تجليات الصفات والمحافظة على أحكامها في المكاشفات {وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ} من علم المبدأ والمعاد وتوحيد الملك والملكوت من عالم الربوبية الذي هو عالم الأسماء {لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ} أي لرزقوا من العالم الروحاني العلوم الإلهية والحقائق العقلية والمعارف الحقانية {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} أي من العالم السفلي الجسماني العلوم الطبيعية والإدراكات الحسية، وبالأول: يهتدون إلى معرفة الله تعالى ومعرفة الملك والجبروت، وبالثاني: يهتدون إلى معرفة عالم الملك، فيعرفون الله تعالى إذا تم لهم الأمران باسمه الباطن والظاهر بل بجميع الأسماء والصفات، وللطيبي هنا كلام طيب يصلح لهذا الباب، فإنه قال بعد أن حكى عن البعض أنه قال في {لاَكَلُواْ} إلخ: أي لوسع عليهم خير الدارين، وقلت: هذا في حق من عدد سيآتهم من أهل الكتاب إذا أقاموا مجرد حدود التوراة والإنجيل، فما ظنك بالعارف السالك إذا قمع هوى النفس وانكمش من هذا العالم إلى معالم القدس معتصمًا بحبل الله تعالى وسنة حبيبه صلى الله عليه وسلم فإنه تعالى يفيض على قلبه سجال فضائله وسحائب بركاته، فكمن فيه كمون الأمطار في الأرض، فتظهر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه. وفي تعليق الأكل من فوق ومن تحت الأرجل على الإقامة بما ذكر، واختصاص {مِنْ} الابتدائية ما يلوح إلى معنى قوله عليه الصلاة والسلام: «من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم».
لأنهم إذا أقاموا العمل بكتاب الله سبحانه استنزل ذلك من فوقهم البركات، فإذا استجدوا العمل لتلك البركات المنزلة وقاموا عليها بثبات أقدامهم الراسخة استنزل ذلك لهم من الله عز وجل بركات هي أزكى من الأولى، فلا يزال العلم والعمل يتناوبان إلى أن ينتهي السالك إلى مقام القرب ومنازل العارفين، وفي ذكر الأرجل إشارة إلى حصول ثبات القدم ورسوخ العلم، وفي اقترانها مع تحت دلالة على مزيد الثبات وأنهم من الراسخين المقتبسين علومهم من مشكاة النبوة دون المتزلزلين الذين أخذوا علومهم من الأوهام، ولذا كتب بعض العارفين بهذه الآية إلى الإمام إرشادًا له إلى معرفة طريق أهل الله عز شأنه انتهى. وقد وجه بعض أهل العبارة ممن هو مني في موضع التاج من الرأس لا زال باقيًا ذكر الأرجل هنا بأنه للإشارة إلى أن المراد بقوله سبحانه: {مِن تَحْتِ أَرْجُلُهُمْ} الأمور السفلية الحاصلة بالسعي والاكتساب كما أن المراد بقوله تعالى: {مّن فَوْقِهِمْ} الأمور الحاصلة جرد الفيض، وحينئذٍ يقوى الطباق بين المتعاطفين. ولعلك تستنبط مما ذكره الطيبي غير هذا الوجه مما يوافق أيضًا مشرب أهل الظاهر، فتدبر {مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ}، قيل: عادلة واصلة إلى توحيد الأسماء والصفات {وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66] وهم المحجوبون بالكلية الذين لن يصلوا إلى توحيد الأفعال بعد فضلًا عن توحيد الصفات، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.